بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- مرافقة رسول الله في الجنة -
الحمد لله رب العالمين،
وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين،
نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد؛
فقد قالت عائشة رضي الله عنها:
بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة،
قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعًا،
في ساعة لم يكن يأتينا فيها!
فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله فاستأذن، فأذن له فدخل،
فقال النبي لأبي بكر: «أخرج مَنْ عندك».
فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله.
قال: «فإني قد أذن لي في الخروج»،
فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟
قال رسول الله : «نعم»
( رواه البخاري) .
دل هذا الحديث على أن القرب من النبي
من نعم الله على العبد،
فكيف بالقرب منه في جنات النعيم؟!
ومما يدلُّ على صدق محبة النبي
أن يتمنى المسلم صحبته؛ ليجاهد معه، ويذب عنه، وينصره،
قال النووي رحمه الله:
"قال القاضي عياض رحمه الله:
ومن محبته
نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته فيبذل ماله ونفسه دونه"
[ ( شرح مسلم (2/16) ] .
.
وليجمعن الله بين المؤمنين الصادقين و
بين نبيهم
عند حوضه،
فقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ:
«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا».
قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ».
فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ»؟
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: «فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا»
( رواه مسلم ) .
والمؤمن الذي فاتته صحبة النبي في الدنيا
يرجو أن يكون رفيقاً له في أعلى جنة الخلد.
فما هي أسباب مرافقة النبي في الجنة؟
الأسباب كثيرة، منها:
* المتابعة والطاعة :
ثبت في المعجم الكبير للطبراني
عَنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما
أنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، حَتَّى إِنِّي لأَذْكُرُكَ، فَلَوْلا أَنِّي أَجِيءُ فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تَخْرُجُ، فَأَذْكُرُ أَنِّي إِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ صِرْتُ دُونَكَ فِي الْمَنْزِلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ، وَأُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الدَّرَجَةِ.
فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [النساء/ 69]،
فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلى الله عليه وسلم فَتَلاهَا عَلَيْهِ.
* محبة النبي
لحديث الصحيحين، عن أَنَسٍ رضي الله عنه،
أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ عَنْ السَّاعَةِ، فَقال: مَتَى السَّاعَةُ؟
قال: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا»؟
قال: لَا شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .
فَقال: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ».
قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا
بِقَوْلِ النَّبِيِّ : «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»،
فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ.
لكن المحب الصادق الذي يناله هذا الفضل
من سلك طريقه، واقتفى أثره، واستنار بنهجه، واهتدى بهديه،
ألا ترى أن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم
وإنما لم يحظوا بمعيتهم في الآخرة لمخالفتهم لهم.
هل يشك أحدٌ في حب أبي طالب للنبي ؟
قاطعته قريش فآثر جانب رسول الله ؛ لحبه له،
لكن لماذا غاير الله بين مآليهما في الآخرة؟
لأن أبا طالب لم يتبع النبي .
إذاً المرء مع من أحب،
لكن لابد أن تسلك سبيل من أحببت لتكون معه،
ولئلا يكون الحبُّ دعوةً جوفاء.
* كثرة الصلاة :
في صحيح مسلم،
قال رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ رضي الله عنه:
كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ،
فَقَالَ لِي: «سَلْ».
فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ»؟
قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.
قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».
قال ابن القيم رحمه الله:
"وإذا أردت أن تعرف مراتب الهمم فانظر إلى
همَّة ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه
وقد قال له رسول الله : «سلني»،
فقال: أسألك مرافقتك في الجنة.
وكان غيره يسأله ما يملأ بطنه، أو يواري جلده"
[ مدارج السالكين ( 3/147) ] .
.
والحديث دليل على أن مرافقة النبي
لا تنال بالتمني، فلابد من العمل لنيلها.
ومعنى "أسألك مرافقتك في الجنة"
أي: سل لي ذلك وادع لي به،
ومن المعلوم قطعاً أن النبي
لا يملك لأحد أن يُدخله الجنة.
* حسن الخلق :
في سنن الترمذي، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ».
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟
قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُون».
ومعني: «أقربكم مني مجلساً يوم القيامة»،
أي: "في الجنة؛ فإنها دار الراحة والجلوس،
أما الموقف فالناس فيه قيام لرب العالمين"
[ دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (5/92) ] .
* الصلاة على رسول الله :
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه،
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً»
( رواه الترمذي ).
قال المناوي رحمه الله:
"«إن أولى الناس بي يوم القيامة»:
أقربهم مني يوم القيامة، وأولاهم بشفاعتي،
وأحقهم بالإفاضة من أنواع الخيرات ودفع المكروهات"
[ فيض القدير شرح الجامع الصغير (2/ 560). ] .
* كفالة يتيم :
إنّ الإحسان إلى الأيتام من أسباب الفوز بأعلى الجنان،
ففي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال:
قال رسول الله :
«أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا»
وأشار بالسبَّابة والوسطى وفرَّجَ بينهما.
قال النووي رحمه الله: "كَافلُ اليَتيم: القَائِمُ بِأمُوره"
[ رياض الصالحين، باب ملاطفة اليتيم، ص (191).].
وقال ابن بطال رحمه الله:
"حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛
ليكون رفيق النبي في الجنة،
ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك"
[ فتح الباري (17/142)].
ولمسلمٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله :
«كافل اليتيم له أو لغيره وأنا وهو كهاتين في الجنة».
قال النووي رحمه الله:
"«اليَتِيمُ لَهُ أَوْ لِغَيرِهِ» مَعْنَاهُ: قَريبُهُ، أَو الأجْنَبيُّ مِنْهُ،
فالقَريبُ مِثلُ أنْ تَكْفَلهُ أمُّهُ أَوْ جَدُّهُ أَوْ أخُوهُ أَوْ غَيرُهُمْ مِنْ قَرَابَتِهِ، والله أعْلَمُ"
[ رياض الصالحين ، ص (191)].
* تربية البنات :
في الأدب المفرد للإمام البخاري عن أنس رضي الله عنه،
عن النبي قال:
«من عال جاريتين حتى تدركا، دخلت أنا وهو في الجنة كهاتين».
وأشار محمد بن عبد العزيز بالسبابة والوسطى.
وفي مصنف ابن أبي شيبة
قال :
«من كان له أختان أو ابنتان فأحسن إليهما ما صحبتاه كنت أنا وهو في الجنة كهاتين»
وقرن بين أصبعيه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله :
«من كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان، فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن، فله الجنة»
( رواه الترمذي وأبو داود ).
وفي لفظ لأبي داود:
«فأدبهن، وأحسن إليهن، وزوجهن، فله الجنة».
* الدعاء :
والدليل حديث ربيعة الذي
طلب إلى النبي صلى االله عليه وسلم
أن يسأل له مرافقته في الجنة.
وفي مسند أحمد، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:
دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ،
وَإِذَا ابْنُ مَسْعُودٍ يُصَلِّي، وَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ النِّسَاءَ، فَانْتَهَى إِلَى رَأْسِ الْمِائَةِ،
فَجَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْأَلْ تُعْطَهْ، اسْأَلْ تُعْطَهْ».
ثُمَّ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ».
فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ لِيُبَشِّرَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَارِحَةَ؟
قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ،
وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ.
ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَكَ،
قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ،مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا سَبَقَنِي إِلَيْهِ.
والسؤال:
هل المرافقة تعني أن المرتبة واحدة؟
الجواب: لا.
ففي صحيح مسلم وغيره، قال :
«إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛
فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا،
ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله،
وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة».
والحديث يدل على أن أعلى درجات الجنة
لن تكون إلا لسيدنا رسول الله .
وأما قول ربيعة رضي الله عنه:
"أسألك مرافقتك في الجنة"،
فمعناه كما قال أهل العلم:
أسأل صحبتك وقربك في الجنة،
ولا يقصد به أن يكون معه في درجة الوسيلة الخاصة به
ولا أن يساويه في النعيم.
قال ابن علان الشافعي رحمه الله:
"أسألك مرافقتك في الجنة،
أي: أن أكون معك فيها قريباً منك،
متمتعاً بنظرك وقربك حتى لا أفارقك،
فلا يشكل حينئذٍ بأن منزلة (الوسيلة) هي خاصة به عن سائر الأنبياء،
فلا يساويه في مكانه منها نبيّ مرسل، فضلاً عن غيرهم؛
لأن المراد أن تحصل له مرتبة من مراتب القرب التام إليه،
فكنَّى عن ذلك بالمرافقة"
[ دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/392)].
اللهم إنا نسألك مرافقة نبينا في أعلى جنة الخلد.
رب صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
د. مهران ماهر عثمان
- صيد الفوائد -
----------------------------
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وارزقنا مرافقة حبيبنا المصطفى في الجنة
برحمتك وفضلك وكرمك
يا رب العالمين